رغم الأزمة المالية بمنطقة اليورو التي عصفت بقوة وأحدثت زلزالا في بعض دولها، بقي الاقتصاد الألماني في موقع متفوق يشار إليه بالبنان. فما هي أسباب ذلك التفوق؟ وما الذي يمكن أن تستفيده بقية الدول الأوروبية من ذلك؟
"صُنع في ألمانيا" بقيت لسنوات كثيرة علامة للجودة والتفوق الاقتصادي. وكان يمكن لهذه الصورة أن تتغير مع الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصف بمنطقة اليورو، والتي قلبت الخريطة السياسية وأطاحت بحكومات عدة دول وفرضت اتباع سياسات تقشفية، أقل ما يمكن وصفها به أنها شديدة المرارة.
لكن يبدو أن الأزمة لم تؤثر على اقتصاد ألمانيا بشكل كبير، حيث حافظ الاقتصاد الألماني على تفوقه وبدا كأنه يغرد خارج السرب بين اقتصادات بقية دول الاتحاد الأوروبي.
وتشير الأرقام إلى أن الاقتصاد اليوناني سجل انكماشا بنسبة 6.5% خلال الربع الأول من العام الحالي، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
والانكماش في إيطاليا كان بنسبة 2.4%. وحتى الأرقام في فرنسا وبريطانيا تشير إلى انكماش اقتصاديهما أيضا. أما في ألمانيا، وإن كانت التوقعات لهذا العام قد خُفضت قليلا، فإنه يتوقع تحقيق نمو قدره 0.7%. وفي عام 2014 ينتظر تحقيق 1.6%.
قطاع الصناعات الثقيلة، وخاصة الصناعات الميكانيكية، ينتقل من نجاح إلى نجاح. ويسهم قطاع الصناعة الألماني عموما بحوالي 20% في الناتج المحلي الإجمالي، أما في بقية منطقة اليورو فتصل النسبة إلى 10% فقط.
أسواق الدول النامية
بعد مرور ما يناهز خمسة أعوام على ما يعرف بـ"الاثنين الأسود"، وهو اليوم الذي أعلن فيه بنك ليمان براذرز الأميركي إفلاسه بسبب الخسائر الكبيرة في السوق العقارية، حيث كان لذلك الإفلاس تأثيرات سلبية كبيرة على الأسواق العالمية، وفي خضم الأزمة المالية الأوروبية الحالية، ينظر الجيران الأوروبيون بعين الدهشة إلى نجاح الاقتصاد الألماني.
ميشائيل غروملينغ من معهد الاقتصاد الألماني في كولونيا يفسر ذلك بأن الشركات الألمانية اعتمدت بقوة خلال العقدين المنصرمين على أسواق "الدول الصناعية الجديدة" والدول النامية. وعلى الرغم من بقاء أوروبا سوقا مهما للاقتصاد الألماني، فإن الشركات الألمانية زادت استثماراتها بشكل متزايد في تلك الدول الصاعدة "وهذا الأمر نجحت فيه ألمانيا، ولكن هناك دول أوروبية عدة فشلت في تحقيقه"، كما يوضح غروملينغ.
أكثر الدول طلبا للبضائع الألمانية هي الصين، إلى جانب الهند والبرازيل. إنها "أشبه بضربة حظ تاريخية لألمانيا"، كما قال الخبير الاقتصادي الألماني البارز بيرت رويروب في أحد المؤتمرات.
وتمثل تلك الصادرات نصف مجمل صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الصين. ويساهم التصدير إلى الدول الصناعية الصاعدة بحوالي 4% من الناتج المحلي الإجمالي الألماني، أما في فرنسا مثلا فتبلغ النسبة 1.2%.
وتركز الشركات الألمانية اليوم على إنتاج ما تحتاجه الأسواق في العالم، وفقا لألكسندر شومان، رئيس اتحاد غرف الصناعة والتجارة الألمانية.
ويقول شومان إن آلات ومعدات البنى التحتية، وتقنيات الطاقة، كلها هامة جدا للدول التي تتجه حاليا لتحديث نفسها، وتريد أن تتطور بسرعة. وكل ما تحتاجه تلك الدول لهذه العملية يمكن لألمانيا أن توفره، من الآلات الثقيلة حتى البراغي.
كلمة السروبينما كانت دول مثل بريطانيا وإسبانيا تعتمد بشكل متزايد على قطاع الخدمات والاستثمارات البنكية والعقارات (ما يعرف بالاقتصاد الحديث)، بقيت شركات ألمانية كثيرة وفيّة للاقتصاد القديم، وخاصة الصناعة الإنتاجية كما يقول الخبير الاقتصادي غروملينغ.
وخلال عقد التسعينيات من القرن الماضي كثر الحديث عن "الرجل المريض" في القارة الأوروبية، والمقصود هو ألمانيا، التي قيل حينها إنها لم تعد قاطرة للاقتصاد الأوروبي. أما اليوم فانقلب الحديث إلى "الاقتصاد القدوة" الذي تسعى دول كثيرة إلى تقمص بعض أسباب نجاحه.
بدوره يشير عبد العزيز المخلافي، الأمين العام لغرفة التجارة والصناعة الألمانية، إلى أن ألمانيا استوعبت جيدا الأزمة الاقتصادية الأولى التي حدثت عام 2008 ولم تتأثر بها، عن طريق عدم تخفيضها للإنتاج واستيعاب العاملين. وذلك لأن آلية اقتصاد السوق الاجتماعي الذي تنتهجه ألمانيا تقوم على التضامن بين رب العمل والعمال عند حدوث الأزمات.
ولعل نظام التعليم المهني والتأهيل الفني يعتبر عاملا مهما أيضا في خلق أيد عاملة شابة مزودة بالمعرفة النظرية من جهة والخبرة العملية من جهة أخرى، "وهو نظام تدرس دول أوروبية كثيرة اليوم إمكانية تطبيقه لديها"، كما يذكر المخلافي.
وإلى جانب المؤسسات العملاقة المعروفة من قبل مثل دايملر (المصنعة لسيارات مرسيدس)، و بي أم دبليو، وباير، وبوش، وسيمنز، تتميز ألمانيا بوجود الآلاف من الشركات المتوسطة -التي غالبا ما تكون شركات عائلية- تساهم بقوة في هذا النجاح الاقتصادي والقدرة على المنافسة.
انعكاس إيجابي
ومن الأسباب الهامة خلق فرص عمل جديدة. فبينما ترتفع معدلات العاطلين عن العمل في دول مجاورة، تواصل تلك المعدلات انخفاضها في ألمانيا، وهذا يقود إلى مزيد من السيولة لدى سكان ألمانيا وبالتالي ارتفاع معدلات الاستهلاك المحلي. أي أن التصدير ليس سببا وحيدا لارتفاع الطلب على البضائع الألمانية.
وهذا الأمر يستفيد منه بقية الأوروبيين أيضا، وخاصة الشباب، حيث تستوعب الشركات الألمانية الكثير من الشباب الأوروبي العاطل عن العمل.
وتشير التقديرات إلى حاجة ألمانيا إلى أكثر من نصف مليون عامل خلال السنوات العشر القادمة، كما يقول المخلافي.
فوائد أخرى تجنيها الدول الأوروبية الأخرى من نجاح ألمانيا اقتصاديا، كمساهمة ألمانيا في تحمل جزء من عبء الديون الذي تعاني منه عدة دول أوروبية. وأيضا المساهمة المالية الكبيرة لألمانيا في تمويل العديد من هيئات ونشاطات الاتحاد الأوروبي، خاصة أن "الاقتصاد الألماني يشكل 20% من مجمل الاقتصاد الأوروبي"، وفقا للمخلافي.
أسباب عديدة تضافرت لتجعل من الاقتصاد الألماني علامة فارقة، وتتمنى دول كثيرة لو تستطيع أن تنقل التجربة إليها، ولكن الأمر يحتاج إلى عقود عديدة من الخبرة المتراكمة.
ــــــــــــ هذا التقرير نشر بالتزامن مع وكالة دويتشه فيلله الإخبارية
المصدر : دويتشه فيلله
|
- تعليقات بلوجر
- تعليقات الفيسبوك
Item Reviewed:
في ظل أزمة الديون الأوروبية ...أوروبا تئن وألمانيا تتألق
Rating:
5
Reviewed By:
Tiztoutine City